المفاوضات والحرب- توازن المصالح، عناد القوة، ومأزق السلام الإسرائيلي.

المؤلف: محمد مفتي08.25.2025
المفاوضات والحرب- توازن المصالح، عناد القوة، ومأزق السلام الإسرائيلي.

عادة ما تسبق اندلاع الحروب جولات مكثفة من المفاوضات، يسعى خلالها كل طرف إلى تعزيز مصالحه القومية وتحقيق مكاسب إضافية، فضلاً عن تجنب الوقوع في براثن الصراعات المسلحة لما لها من تبعات وخيمة. بيد أن المفاوضات ليست بالعملية السهلة وقد لا تُكلل بالنجاح في نهاية المطاف، بل غالباً ما تتسم بطول أمدها وتعدد اللقاءات المشتركة التي تحظى برعاية دول أخرى تتسم بالحياد أو تربطها علاقات ودية مع الأطراف المعنية. ولا يتسنى تحقيق نتائج مُرضية من خلال المفاوضات إلا بتوافر جملة من الشروط، يتصدرها رغبة جميع الأطراف المتنازعة في التوصل إلى حل عادل يراعي مصالح الجميع ويحقق التوازن المنشود. ينبغي أن تتضمن بنود التفاوض عناصر تعمل على تقريب وجهات النظر المتباينة بين الأطراف المختلفة، إذ يقوم التفاوض في جوهره على إبداء كل طرف قدراً من المرونة والتسامح، وتجنب التصلب والتشدد الذي يضر بمصالح الطرف الآخر، وذلك بهدف احتواء الأوضاع المتأزمة والحيلولة دون الوصول إلى نقطة اللاعودة، وتفادي نشوب الحرب قدر الإمكان. فدول العالم وشعوبه أصبحت اليوم على دراية كاملة بالتكاليف الباهظة للحروب، وما تتسبب فيه من استنزاف للموارد المالية والبشرية لجميع الأطراف المتصارعة، حتى الأطراف المنتصرة تعاني بدورها من الآثار السلبية للحروب. تعتبر سيادة الدول على أراضيها من المطالب الجوهرية التي تحرص كل دولة على التمسك بها والدفاع عنها بكل ما أوتيت من قوة، وقد أنقذت المفاوضات العالم في الكثير من المناسبات من كوارث محققة، ولم يقتصر دورها على إنقاذ أطراف النزاع فحسب. فعلى سبيل المثال، نجحت المفاوضات في الحيلولة دون انزلاق العالم إلى الفوضى العسكرية خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. ومما لا شك فيه أن مصير المفاوضات هو الفشل الذريع في حال إصرار الطرفين (أو حتى أحدهما) على تحقيق جميع أهداف أجندته بالكامل، دون أدنى اعتبار لما قد يلحقه تحقيق هذه الأهداف من ضرر بمصالح الطرف الآخر، وعندما تصل المفاوضات إلى طريق مسدود، تشتعل نيران الحرب. تجدر الإشارة إلى أن بعض الدول تعزف عن خيار التفاوض وتفضل عليه لغة القوة والحرب، انطلاقاً من قناعتها بأن الحرب هي التجسيد الأمثل للقوة والنفوذ، وأنها الوسيلة الأنجع لبلوغ الأهداف المنشودة عنوة واقتداراً، حيث ينتصر في نهاية المطاف الطرف الأقوى عسكرياً. وفي هذه الحالة، تصبح الحرب بمثابة كارثة مدمرة للطرف الأضعف، الذي يخوضها مرغماً دفاعاً عن أرضه أو سيادته، كما هو الحال في الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة رحاها حالياً. ويتوهم الطرف الأقوى أن الحرب العسكرية ستحقق له ما عجزت عنه المفاوضات، وأنه سيتمكن من خلالها من تحقيق جميع أهدافه وغاياته، حتى لو كان ذلك على حساب تدمير الطرف الآخر وسحقه. ومما يلاحظ أن الطرف الذي يتمتع بقدرات عسكرية متفوقة ويحظى بدعم عدد كبير من الحلفاء، غالباً ما يكون الأكثر تشدداً وتعنتاً في المفاوضات، إذ يدخلها واثقاً بقوته وقدرته على فرض شروطه، ساعياً إلى تحقيق جميع مصالحه وتنفيذ كافة مطالبه، دون أدنى اكتراث بمصالح الطرف الآخر وحقوقه. فهو لا يرى إلا نفسه ومصالحه، ولا يرغب في أن يحقق الطرف الآخر أي مكسب أو نجاح، وبذلك لا يكون التفاوض هو هدفه، بل يسعى إلى الحصول على تنازل رسمي بتوقيع المفاوضين، يستطيع استخدامه كورقة ضغط على المدى الطويل، وهذا هو النهج الذي تتبعه إسرائيل في مفاوضاتها مع الدول العربية حتى يومنا هذا. إسرائيل ترفض الاعتراف بحقوق العرب التاريخية في أراضيهم، فهي تطمع في الجولان ومزارع شبعا والضفة الغربية وقطاع غزة، وتتمادى في الاستيلاء على المزيد من الأراضي التي لا تملكها، من خلال إقحام آلتها العسكرية في أراضي بعض الدول المجاورة، مدعومة بمساندة بعض الدول الغربية. وهي تتبع سياسة فرض الأمر الواقع كاستراتيجية بعيدة المدى، ولا ترغب في الاعتراف بدولة فلسطينية أو بأي حقوق للشعب الفلسطيني، بل تسعى إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أراضيه، وإذا قاوم الفلسطينيون، فإنها تقوم بقتلهم بدم بارد، دون تمييز بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل أو عسكري ومدني. من الواضح تماماً أن إسرائيل تتوق إلى استعادة الأراضي الفلسطينية التي تديرها السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو، فبالإضافة إلى اعتداءات المستوطنين المتطرفين على أبناء الضفة الغربية، والذين تقوم السلطات الإسرائيلية نفسها بتسليحهم لترويع الفلسطينيين والتعدي عليهم كلما سنحت لهم الفرصة، فإنها تقوم ببناء المزيد من المستوطنات هناك، ونقل المزيد من الإسرائيليين إليها للعيش فيها، وبذلك تتمكن من تغيير الهوية الفلسطينية واستبدالها بالهوية الإسرائيلية تدريجياً، حتى تضم كامل الأراضي الفلسطينية إلى دولة إسرائيل. تدّعي إسرائيل أنها حريصة كل الحرص على إجراء مفاوضات سلام جادة وبناءة مع العرب، ومن هنا يتضح لنا المفهوم الذي تقصده إسرائيل بالسلام، فهو ذلك النوع من السلام الذي تريد أن تأخذ فيه كل شيء مقابل لا شيء تعطيه للفلسطينيين، فهي تنكر تماماً حق الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم المشروعة، وعلى رأسها حقهم في إقامة دولة مستقلة لهم معترف بها دولياً.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة